ملف الأسماء الغريبة
الأسماء من إبراهيم والحسك إلى السيد شمعة وسنغافورة
إبراهيم بن المهدي يرى أن اسم إبراهيم أقبح الأسماء، وسنغافورة كان حاذقا في صناعة أحذية النساء.
سأل هارون الرشيد أخاه إبراهيم بن المهدي "ما أحسن الأسماء عندك؟"
قال "محمد، اسم رسول الله واسمك هارون، اسم أمير المؤمنين".
فسأل هارون الرشيد "فأقبح الأسماء ما هو؟"
قال "إبراهيم".
فزجره هارون الرشيد قائلا "ويحك! أتقول هذا! أليس هو اسم إبراهيم خليل الرحمن؟"
قال "بشؤم هذا الاسم لقي من نمرود ما لقي، وطرح في النار."
قال الرشيد "فإبراهيم، ابن النبي صلى الله عليه وسلم؟"
قال إبراهيم بن المهدي "لا جرم! إنه لم يعمر من أجله."
قال الرشيد "فإبراهيم الإمام؟"
فقال "بشؤم اسمه قتله مروان في حرّان، وأزيدك يا أمير المؤمنين: إبراهيم بن الوليد، خلع، وإبراهيم بن عبد الله بن حسن، قتل؛ وعمه إبراهيم بن حسن، سقط عليه السجن فمات؛ وما رأيت والله أحدا بهذا الاسم إلا قتل أو نكب، أو رأيتهُ مضروباً أو مقذوفا أو مظلوما."
قرأت هذه الكلمات منذ سنوات طويلة، وكان مديرنا العام في الشركة التي أعمل بها اسمه إبراهيم، وكان يحب المزاح معي، فحكيت له عما قرأت، فوافقني على قولي وحكى لي أشياء حدثت في حياته تؤكد قول إبراهيم بن المهدي، وشاعت هذه الحكاية بين زملائي في الإدارة، فكانوا يأتون إليَّ ليحكوا لي عما حدث لرجال يحملون اسم إبراهيم، واستعرضنا كل الذين يحملون اسم إبراهيم في الشركة، فوجدنا فيهم ما يؤكد قول إبراهيم بن المهدي.
بالطبع هذه الحكاية ليس لها قانون علمي يؤكدها، فمن الممكن أن نجد إبراهيم سعيدا في حياته، وآخر شقي. ومن الممكن أن نجد عليا طيبا وآخر اسمه علي وهو نصاب وسارق.
لكن هذه الحكاية جعلتني أتمعن في الأسماء. وخصصت ملفا في الكمبيوتر لذكر أسماء الأشخاص العجيبة، وكلما سمعت اسما غريبا أسرعت وسجلته في مكانه، وبحثت عن سبب هذه التسمية.
كنت معجبا في صغري بمحمود المليجي – الممثل المشهور – وسألت نفسي من أين جاء اسم "المليجي؟" إلى أن عرفت أن هناك بلدة تابعة لمحافظة المنوفية اسمها مليج، والمليجي نسبة إلى هذه القرية.
وراعني عندما كبرت اسم "البرادعي"، وعندما قرأت كتابا عن رحلة الخديو عباس حلمي الثاني لقرى ومدن مصر، وجدته قد زار بلدة برادعة المنسوب إليها كل الذين يحملون اسم البرادعي.
وعندما كنت أعمل بشركة الورق، جاء مدير بالمصنع بعدد كبير من بلدياته – أهالي مدينة أدكو – ففوجئت بأسماء غريبة اسمعها لأول مرة. فهذا المدير اسمه "..... حلقها" وواحد من الذين جاءوا معه اسمه " .... برمو" وآخر اسمه " ..... كعباري" وواحد اسمه " ..... كوزو" و" ....... خرابة" وأسماء أكثر غرابة لكنني نسيتها الآن.
وأرجع إلى ملف الأسماء الغريبة عندي فأجد:
الحسك: وهو اسم لحشائش تنمو وحدها، دون أن يزرعها أحد. كنا نقول عنها تنمو شيطانيا، فقالوا إن هذا حرام، قولوا تنمو ربانيا، لأن ربنا هو الذي ينميها ويكبرها وليس الشيطان. المهم أنني كنت أعرف واحد اسمه الحسك، كان صعيديا وكان قصيرا ضامرا ولا أعرف للآن إن كان الحسك اسمه الحقيقي أو أنه اسم شهرة، ولا أعرف لماذا سمي بهذا الاسم الغريب.
الحسك هذا كان يعمل مع عمه في فرش فاكهة في محطة الرمل، خلف سوق المسلة المشهور هناك، والده وعمه شريكان في تجارة الفاكهة، وبعد أن مات والده، أراد عمه أن ينفرد بملكية الفرش. إن كان عاجب الحسك هذا فليعمل بالأجرة لدى عمه مثل أي أجير، وعندما طالب الحسك عمه بحقه؛ طرده، فعمل مساعدا لفكهاني بجوار سينما راديو.
الكنج: محمود الكنج كان مخبرا في قسم شرطة العطارين، ووصل إلى رتبة شيخ المخبرين، وكنت أراه يقود حملة تطهير في محطة مصر، ويمسك بملابس شاب يبيع الشاي على باب المحطة الحديدي، يفتش ملابسه، ويصفعه، ثم يضربه بساقه على مؤخرته على سبيل التحقير والازدراء، ورأيته كثيرا في جلسات الحشيش في الأفراح التي كانت تقام في الشوارع، وسمعته يحكي لمن معه عن بطولاته، وأنه قبض على رجل صعيدي مع رجاله وضربوه في عنف وأرادوا أن يرغموه على سب بلده، يقول إنه من بلد وسخة، لكنه أمتنع، فضربوه أكثر، فتمسك بموقفه أكثر حتى ضاقوا به فسألوه: أنت من أنه بلد يا ولد؟ فقال: بلدة كذا, وهي نفس قرية محمود الكنج وبلدة معظم سكان المنطقة التي يعيش فيها.
لكن – للأسف – تورط محمود الكنج في مشكلة أدت إلى وقفه عن العمل ثم فصله نهائيا من الخدمة، فاضطر أن يؤجر الكرنكات للأطفال في الشارع.
سنغافورة: هي أصلا اسم دولة معروفة، لكن أحد صانعي الأحذية كان يسمى بهذا الاسم، ولا أعرف لماذا، دكانه كان في ممر ضيق بقسم عمارة كبيرة بشارع صفية زغلول نصفين، الممر به دكاكين متراصة على الصفين فيه الخياط والكهربائي، والمنجد والمكوجي .. الخ.
والظاهر أن سنغافورة كان حاذقا في صناعة الأحذية، فقد كانت السيدات الغنيات يأتين إليه، تقف سيارة الواحدة منهن في الشارع العمومي، وتدخل الممر، فيلحظها أحمد سنغافورة من بعيد، فيسرع في دخول أي دكان يقابله ويختبئ فيه. فتسأل المرأة فلا تجده، فتعود خاسرة، كان يعطي النساء مواعيد ولا يفي بها عادة، وكن يتمسكن به ويحتملن تصرفاته الغريبة.
لم يكن سنغافورة متزوجا، ينام أحيانا في دكانه، يكسب كثيرا وينفق بسخاء، من الممكن أن يدعو كل سكان الممر على أكلة سمك تكلفه الكثير جدا، ولابد أن تكون البيرة موجودة على المائدة الكبيرة جدا، وهاجرت خوجاية من زبائنه إلى إيطاليا؛ فأرسلت من هناك تطلب ثلاث أحذية ومقاييس قدميها عنده، فأمسك بالخطاب والشيك المرسل وهو يصيح لباقي الصنايعية في الممر:
- شايفين يا غجر، بيبعتولي من إيطاليا علشان أعمل لهم جزم.
وكان مزاجه في متابعة المباريات في الاستاد، خاصة عندما يلعب نادي الاتحاد السكندري، فلا تفوته مباراة واحدة له، وطوال الوقت يتحدث عن لاعبيه وإدارييه، وكان لسانه متبريا منه – كما يقولون – فلا يخاف أحدا من الممر، ولو فعل أحد سكان الممر شيئا أمامه؛ لابد أن يفضحه علنا وأمام الجميع.
مات سنغافورة فجأة داخل دكانه فقام أهل الممر بدفنه في مدفن أحد أصحاب المحلات هناك، واسترد صاحب العمارة دكانه، فلم يهتدوا لأحد من وارثيه، وطوال فترة حياته لم يروا له قريبا أو نسيبا.
السيد شمعة: أعرفه قبل أن يكتسب اسم شمعة هذا، كان يعمل مساعد زبال لدى أم الشحات وهى امرأة متزوجة من رجل أصغر منها بكثير، أصغر من ابنها الشحات، وكان يشرف على العمل في قسم الزبالة الذي تمتلكه، والسيد هذا يساعده، ويطيعه في كل شيء.
كان السيد يشعل الخشب في ماجور كبير ليتدفأ في ليالي الشتاء الباردة، وكنا ونحن صغار نرمي البمب في الماجور، فتنفجر البمبة وتصنع دويا عاليا، وتتطاير النار في وجهه، وربما تشعل قفطانه الذي يلبسه، كان بيت أم الشحات بلا مياه، يأتي السقا حاملا صفائح الماء، ويملأ بها الأزيرة. فكان السيد يأتي إلى بيت جدتي القريب ليستحم في حمام البيت ولا ينسى أن يشكو لجدتي من معكساتي له.
ظل السيد بلا زوجة، وفجأة قرر أن يتزوج أرملة؛ شقيقة لمكوجي يسكن كوخا فوق سطح بيت جدتي. زوجة ذلك المكوجي ذات جسد ممشوق، ولا يعيبها إلا حول واضح في عينيها، وكانت تزيد من دخل أسرتها باستغلال جسدها الرائع، وذات ليلة جاء رجال كثيرون ومعهم نساء، فقد أقامت المرأة حفلا ربما بمناسبة عيد ميلاد ابنها، أو مناسبة أخرى لا أذكرها الآن.
المهم أن الرجال والنساء لم يجدن مكانا لممارسة الحب في ذلك الكوخ الصغير، فكانوا يهبطون إلى شقة بلا باب، حجراتها أغلقها شقيق جدتي إلى أن يحين موعد زفافه الذي طال. وكان سيد يحمل شمعة كبيرة لينير للعشاق حتي يجدن ممارسة الحب. واكتشف شقيق جدتي هذا، فضرب سيد ومن معه من رجال ونساء – بمعاونة أهل الحارة – وطردوهم من البيت. ومن يومها أطلقوا على سيد اسم "السيد شمعة".
محمد الشريف: اسمه الحقيقي محمد عبد الباسط، وليس في عائلتهم من يسمى الشريف، لكنه اكتسب هذا الاسم بجهده وعرقه، فقد كان يدخل البيوت مساء، ويخدر أهل البيت - لو كانوا موجودين - ويسرقهم، وكانت صورته معلقة في محطة سكك حديد الإسكندرية بمحطة مصر، بجوار شباك قطع التذاكر في أوضاع مختلفة، وتحذير للمتعاملين مع السكك الحديدية، على أنه من اللصوص الخطرين، كان يحكي مغامراته في السرقة، كيف سرق حلة بلحمتها، وأعطاها لأخته الكبيرة، لتأكل ما فيها هي وزوجها وأولادها، وتغسل الحلة ليذهب ليبيعها.
أطلق عليه أهل الحي اسم الشريف سخرية من أفعاله في السرقة، وقد أعجبه اللقب الجديد، وكان يقف في حفلات الزواج، وينقط على فرقة العوالم مناديا: محمد الشريف بيمسي على الفرح" ثم يغني أغنية من أغنيات عبد الحليم حافظ، أو محرم فؤاد الذي ظهر في هذه الأيام. لم يكن صوته يصلح للغناء، وكان لا يعرف طريقة اللحن، لكنه يعتقد أنه مطرب أفضل من كل المشهورين الذين يغنون في الإذاعة.
دخل محمود الشريف سجن الحضرة عدة مرات، وكان يشكو من العذاب الذي يلقاه في سجنه، لكنه بعد فترة يحاول أن يستقيم فيها يعاود ثانية دخول البيوت وسرقتها، وتزوج بعد أن كبر على الزواج، وظل لفترة طويلة دون إنجاب، وكان هو السبب في ذلك، فأقسم بأن يمتنع عن سرقة بيوت الناس إن من الله عليه بالإنجاب، واستجاب الله له بالفعل وأنجب الولد والبنت واستقام، لكن ظل اسم الشريف ملاصقا له. حتى ظن البعض أنه اسمه الحقيقي.
الأسماء من إبراهيم والحسك إلى السيد شمعة وسنغافورة
إبراهيم بن المهدي يرى أن اسم إبراهيم أقبح الأسماء، وسنغافورة كان حاذقا في صناعة أحذية النساء.
سأل هارون الرشيد أخاه إبراهيم بن المهدي "ما أحسن الأسماء عندك؟"
قال "محمد، اسم رسول الله واسمك هارون، اسم أمير المؤمنين".
فسأل هارون الرشيد "فأقبح الأسماء ما هو؟"
قال "إبراهيم".
فزجره هارون الرشيد قائلا "ويحك! أتقول هذا! أليس هو اسم إبراهيم خليل الرحمن؟"
قال "بشؤم هذا الاسم لقي من نمرود ما لقي، وطرح في النار."
قال الرشيد "فإبراهيم، ابن النبي صلى الله عليه وسلم؟"
قال إبراهيم بن المهدي "لا جرم! إنه لم يعمر من أجله."
قال الرشيد "فإبراهيم الإمام؟"
فقال "بشؤم اسمه قتله مروان في حرّان، وأزيدك يا أمير المؤمنين: إبراهيم بن الوليد، خلع، وإبراهيم بن عبد الله بن حسن، قتل؛ وعمه إبراهيم بن حسن، سقط عليه السجن فمات؛ وما رأيت والله أحدا بهذا الاسم إلا قتل أو نكب، أو رأيتهُ مضروباً أو مقذوفا أو مظلوما."
قرأت هذه الكلمات منذ سنوات طويلة، وكان مديرنا العام في الشركة التي أعمل بها اسمه إبراهيم، وكان يحب المزاح معي، فحكيت له عما قرأت، فوافقني على قولي وحكى لي أشياء حدثت في حياته تؤكد قول إبراهيم بن المهدي، وشاعت هذه الحكاية بين زملائي في الإدارة، فكانوا يأتون إليَّ ليحكوا لي عما حدث لرجال يحملون اسم إبراهيم، واستعرضنا كل الذين يحملون اسم إبراهيم في الشركة، فوجدنا فيهم ما يؤكد قول إبراهيم بن المهدي.
بالطبع هذه الحكاية ليس لها قانون علمي يؤكدها، فمن الممكن أن نجد إبراهيم سعيدا في حياته، وآخر شقي. ومن الممكن أن نجد عليا طيبا وآخر اسمه علي وهو نصاب وسارق.
لكن هذه الحكاية جعلتني أتمعن في الأسماء. وخصصت ملفا في الكمبيوتر لذكر أسماء الأشخاص العجيبة، وكلما سمعت اسما غريبا أسرعت وسجلته في مكانه، وبحثت عن سبب هذه التسمية.
كنت معجبا في صغري بمحمود المليجي – الممثل المشهور – وسألت نفسي من أين جاء اسم "المليجي؟" إلى أن عرفت أن هناك بلدة تابعة لمحافظة المنوفية اسمها مليج، والمليجي نسبة إلى هذه القرية.
وراعني عندما كبرت اسم "البرادعي"، وعندما قرأت كتابا عن رحلة الخديو عباس حلمي الثاني لقرى ومدن مصر، وجدته قد زار بلدة برادعة المنسوب إليها كل الذين يحملون اسم البرادعي.
وعندما كنت أعمل بشركة الورق، جاء مدير بالمصنع بعدد كبير من بلدياته – أهالي مدينة أدكو – ففوجئت بأسماء غريبة اسمعها لأول مرة. فهذا المدير اسمه "..... حلقها" وواحد من الذين جاءوا معه اسمه " .... برمو" وآخر اسمه " ..... كعباري" وواحد اسمه " ..... كوزو" و" ....... خرابة" وأسماء أكثر غرابة لكنني نسيتها الآن.
وأرجع إلى ملف الأسماء الغريبة عندي فأجد:
الحسك: وهو اسم لحشائش تنمو وحدها، دون أن يزرعها أحد. كنا نقول عنها تنمو شيطانيا، فقالوا إن هذا حرام، قولوا تنمو ربانيا، لأن ربنا هو الذي ينميها ويكبرها وليس الشيطان. المهم أنني كنت أعرف واحد اسمه الحسك، كان صعيديا وكان قصيرا ضامرا ولا أعرف للآن إن كان الحسك اسمه الحقيقي أو أنه اسم شهرة، ولا أعرف لماذا سمي بهذا الاسم الغريب.
الحسك هذا كان يعمل مع عمه في فرش فاكهة في محطة الرمل، خلف سوق المسلة المشهور هناك، والده وعمه شريكان في تجارة الفاكهة، وبعد أن مات والده، أراد عمه أن ينفرد بملكية الفرش. إن كان عاجب الحسك هذا فليعمل بالأجرة لدى عمه مثل أي أجير، وعندما طالب الحسك عمه بحقه؛ طرده، فعمل مساعدا لفكهاني بجوار سينما راديو.
الكنج: محمود الكنج كان مخبرا في قسم شرطة العطارين، ووصل إلى رتبة شيخ المخبرين، وكنت أراه يقود حملة تطهير في محطة مصر، ويمسك بملابس شاب يبيع الشاي على باب المحطة الحديدي، يفتش ملابسه، ويصفعه، ثم يضربه بساقه على مؤخرته على سبيل التحقير والازدراء، ورأيته كثيرا في جلسات الحشيش في الأفراح التي كانت تقام في الشوارع، وسمعته يحكي لمن معه عن بطولاته، وأنه قبض على رجل صعيدي مع رجاله وضربوه في عنف وأرادوا أن يرغموه على سب بلده، يقول إنه من بلد وسخة، لكنه أمتنع، فضربوه أكثر، فتمسك بموقفه أكثر حتى ضاقوا به فسألوه: أنت من أنه بلد يا ولد؟ فقال: بلدة كذا, وهي نفس قرية محمود الكنج وبلدة معظم سكان المنطقة التي يعيش فيها.
لكن – للأسف – تورط محمود الكنج في مشكلة أدت إلى وقفه عن العمل ثم فصله نهائيا من الخدمة، فاضطر أن يؤجر الكرنكات للأطفال في الشارع.
سنغافورة: هي أصلا اسم دولة معروفة، لكن أحد صانعي الأحذية كان يسمى بهذا الاسم، ولا أعرف لماذا، دكانه كان في ممر ضيق بقسم عمارة كبيرة بشارع صفية زغلول نصفين، الممر به دكاكين متراصة على الصفين فيه الخياط والكهربائي، والمنجد والمكوجي .. الخ.
والظاهر أن سنغافورة كان حاذقا في صناعة الأحذية، فقد كانت السيدات الغنيات يأتين إليه، تقف سيارة الواحدة منهن في الشارع العمومي، وتدخل الممر، فيلحظها أحمد سنغافورة من بعيد، فيسرع في دخول أي دكان يقابله ويختبئ فيه. فتسأل المرأة فلا تجده، فتعود خاسرة، كان يعطي النساء مواعيد ولا يفي بها عادة، وكن يتمسكن به ويحتملن تصرفاته الغريبة.
لم يكن سنغافورة متزوجا، ينام أحيانا في دكانه، يكسب كثيرا وينفق بسخاء، من الممكن أن يدعو كل سكان الممر على أكلة سمك تكلفه الكثير جدا، ولابد أن تكون البيرة موجودة على المائدة الكبيرة جدا، وهاجرت خوجاية من زبائنه إلى إيطاليا؛ فأرسلت من هناك تطلب ثلاث أحذية ومقاييس قدميها عنده، فأمسك بالخطاب والشيك المرسل وهو يصيح لباقي الصنايعية في الممر:
- شايفين يا غجر، بيبعتولي من إيطاليا علشان أعمل لهم جزم.
وكان مزاجه في متابعة المباريات في الاستاد، خاصة عندما يلعب نادي الاتحاد السكندري، فلا تفوته مباراة واحدة له، وطوال الوقت يتحدث عن لاعبيه وإدارييه، وكان لسانه متبريا منه – كما يقولون – فلا يخاف أحدا من الممر، ولو فعل أحد سكان الممر شيئا أمامه؛ لابد أن يفضحه علنا وأمام الجميع.
مات سنغافورة فجأة داخل دكانه فقام أهل الممر بدفنه في مدفن أحد أصحاب المحلات هناك، واسترد صاحب العمارة دكانه، فلم يهتدوا لأحد من وارثيه، وطوال فترة حياته لم يروا له قريبا أو نسيبا.
السيد شمعة: أعرفه قبل أن يكتسب اسم شمعة هذا، كان يعمل مساعد زبال لدى أم الشحات وهى امرأة متزوجة من رجل أصغر منها بكثير، أصغر من ابنها الشحات، وكان يشرف على العمل في قسم الزبالة الذي تمتلكه، والسيد هذا يساعده، ويطيعه في كل شيء.
كان السيد يشعل الخشب في ماجور كبير ليتدفأ في ليالي الشتاء الباردة، وكنا ونحن صغار نرمي البمب في الماجور، فتنفجر البمبة وتصنع دويا عاليا، وتتطاير النار في وجهه، وربما تشعل قفطانه الذي يلبسه، كان بيت أم الشحات بلا مياه، يأتي السقا حاملا صفائح الماء، ويملأ بها الأزيرة. فكان السيد يأتي إلى بيت جدتي القريب ليستحم في حمام البيت ولا ينسى أن يشكو لجدتي من معكساتي له.
ظل السيد بلا زوجة، وفجأة قرر أن يتزوج أرملة؛ شقيقة لمكوجي يسكن كوخا فوق سطح بيت جدتي. زوجة ذلك المكوجي ذات جسد ممشوق، ولا يعيبها إلا حول واضح في عينيها، وكانت تزيد من دخل أسرتها باستغلال جسدها الرائع، وذات ليلة جاء رجال كثيرون ومعهم نساء، فقد أقامت المرأة حفلا ربما بمناسبة عيد ميلاد ابنها، أو مناسبة أخرى لا أذكرها الآن.
المهم أن الرجال والنساء لم يجدن مكانا لممارسة الحب في ذلك الكوخ الصغير، فكانوا يهبطون إلى شقة بلا باب، حجراتها أغلقها شقيق جدتي إلى أن يحين موعد زفافه الذي طال. وكان سيد يحمل شمعة كبيرة لينير للعشاق حتي يجدن ممارسة الحب. واكتشف شقيق جدتي هذا، فضرب سيد ومن معه من رجال ونساء – بمعاونة أهل الحارة – وطردوهم من البيت. ومن يومها أطلقوا على سيد اسم "السيد شمعة".
محمد الشريف: اسمه الحقيقي محمد عبد الباسط، وليس في عائلتهم من يسمى الشريف، لكنه اكتسب هذا الاسم بجهده وعرقه، فقد كان يدخل البيوت مساء، ويخدر أهل البيت - لو كانوا موجودين - ويسرقهم، وكانت صورته معلقة في محطة سكك حديد الإسكندرية بمحطة مصر، بجوار شباك قطع التذاكر في أوضاع مختلفة، وتحذير للمتعاملين مع السكك الحديدية، على أنه من اللصوص الخطرين، كان يحكي مغامراته في السرقة، كيف سرق حلة بلحمتها، وأعطاها لأخته الكبيرة، لتأكل ما فيها هي وزوجها وأولادها، وتغسل الحلة ليذهب ليبيعها.
أطلق عليه أهل الحي اسم الشريف سخرية من أفعاله في السرقة، وقد أعجبه اللقب الجديد، وكان يقف في حفلات الزواج، وينقط على فرقة العوالم مناديا: محمد الشريف بيمسي على الفرح" ثم يغني أغنية من أغنيات عبد الحليم حافظ، أو محرم فؤاد الذي ظهر في هذه الأيام. لم يكن صوته يصلح للغناء، وكان لا يعرف طريقة اللحن، لكنه يعتقد أنه مطرب أفضل من كل المشهورين الذين يغنون في الإذاعة.
دخل محمود الشريف سجن الحضرة عدة مرات، وكان يشكو من العذاب الذي يلقاه في سجنه، لكنه بعد فترة يحاول أن يستقيم فيها يعاود ثانية دخول البيوت وسرقتها، وتزوج بعد أن كبر على الزواج، وظل لفترة طويلة دون إنجاب، وكان هو السبب في ذلك، فأقسم بأن يمتنع عن سرقة بيوت الناس إن من الله عليه بالإنجاب، واستجاب الله له بالفعل وأنجب الولد والبنت واستقام، لكن ظل اسم الشريف ملاصقا له. حتى ظن البعض أنه اسمه الحقيقي.
